لقد اختلفت تعريفات الناس للسعادة باختلاف طباعهم واهتماماتهم وتطلعاتهم وحتى بيئتهم؛ لقد كانت تعريفاتهم أشبه بأصوات الآلات الموسيقية المنبعثة من الآلات المختلفة؛ فكل تعريف أشبه بمقام موسيقي له أبعاده وله جماله ولكن له حدوده، ولو أننا جمعنا مجمل هذه التعريفات لوجدت عندنا جملة موسيقية رائعة لشكلت تحفة فنية اسمها السعادة الحقيقية؛ مع أنني لا أخفي القول عليكم أنّ بعض التعريفات التي وصلتني من الناس كانت بسيطة ومضحكة بعض الشيء لكن لها أبعادها ومكانها في السعادة فمثلاً:
أحد التعريفات للسعادة كان من قبل أحد الأشخاص يقول فيه سعادتي أن أنجح في البكالوريا ولو “الثانوية العامة”، والآخر أن أتزوج، والثالث أن أجد عملاً محترماً، والرابع أن يهدي الله أولادي، والخامس أن أتخلص من جاري المزعج، وهكذا وهذه التعرفات كلها إن وضعتها تضعها في موضع الأهداف إذ الفرق واضح بين الأهداف وبين السعادة، صحيح أن الإنسان يسر إذا تحقق هدفه ولكنه لا يشكل تحقيق الهدف إلا جزءاً من السعادة.
ثم إنّ بعض التعريفات أخذت معنى معنوياً فبعضهم عرف السعادة بأنها مساعدة الآخرين، والآخر عرفها بأنها الاكتفاء الروحي، والآخر قراءة القرآن بعد الفجر.
وبعض التعريفات أخذت معنى رومنسياً كقول بعضهم السعادة قرب الحبيب وبعد الطبيب، والآخر السعادة هي الحب فأن تكون محباً فهذا أمر لذيذ لكن أن تكون محبوباً فهذه هي السعادة.
وبعض التعريفات أخذت معنى الحكمة فبعضهم يقول السعادة هي التحصن من الأمراض العضوية والنفسية؛ والآخر السعادة صحة في بدن وأمن في وطن.
وبعض التعريفات أخذت معنى مادياً فبعضهم عرف السعادة بأنها المال والبنون, ومنهم الكرسي والمنصب والآخر بيت وشاليه وسيارة وهكذا.[1]
يرجح بعض علماء النفس والاجتماع والفلاسفة أن سر السعادة بدأ منذ تحققت للإنسان كينونته، أي منذ أن وجد بكيانه المستقل، وقد كان الإنسان دائم التفكير في الغذاء والدفء والأمان، وهذا ما يساوي عنده السعادة.
أما الآن، فلا يمكننا أن نتفق حتى على أن هذا هو سر السعادة الدائم، فهل سرها هو المال؟ هل هي الصحة والقوة؟ أم أنها تلك المنزلة الاجتماعية؟ لعلها مستويات التعليم العالية؟ أم راحة البال؟ قد يكون سرها كل ما ذكرناه آنفاً!.
فلسفة السعادة
اعتقد أن سر السعادة هو ذاك الشيء الوحيد الذي لا نستطيع أن ننكر وجوده فينا، هو الحب، هو ذاك الشعور الذي يضفي السعادة لأي شيء يلمسه بغض النظر عن رؤيتك الشخصية عن السعادة، إذ تبدأ مشاعر الناس السعيدة تنعكس على تصرفاتهم على أساس من الحب، لن يكون هنالك فقير بين من سيهتم لحاجته، لن يكون هنالك جريمة بين هؤلاء القادرين على الصفح والعفو والتسامح، سيقلع الناس بكل بساطه عن تلك النظرات السوداء، ليبدأوا برؤية العالم كما هو، مدركين لما لديهم حقيقةً.
أعلم أن النظر من هذا المنظور يبدو وكأنه من محض الخيال، فليس ثمة هنالك خير مطلق أو شر مطلق، ما من شيء مثالي في هذه الحياة، حتى لحن الحياة المثالي لا يمكننا أن ندرك سماع صوته، لأن اللحن المثالي لا صوت له، وعليه أجد أنه وفي نهاية هذا اليوم بزوغ لمنطقية أكثر من هذا الحاضر الفعلي الذي نعيش فيه، أن تحب… هو أن تؤمن الخير للبشرية، الأمر الذي يؤول في نهاية المطاف للاستمتاع بحالة من السلام الداخلي في منتصف الحياة الفوضوية.
سعادة ناقصة
حين يذكر ذكره، ينتقل بك خبره من شعورك الآني إلى شعورٍ آخرٍ مختلفٍ متناقض، تشعر وكأن عقارب ساعة الحياة قد توقفت لتوها، وكأنك ولجت بتفكيرك لعالمٍ جديدٍ لست تدرك منه قواعده وقوانينه!، إنه الموت… هو تلك المرحلة الإنتقالية التي تأخذ بك من حياتك الدنيا التي ألفتها وأدركت معانيها وسعيت سعيك فيها، إلى حياة أخرى لم تعتد عيشها، لم تألف قوانينها، ولن تدرك شكلها إلا عند الخوض فيها.
الموت هو تلك الصخرة التي تقف عندها طموحاتك، تأملاتك، أحلامك، قواعدك، فلسفتك، أعمالك، وكأن السباق انتهي لتوه، رفعت أقلامك عن الصحف وجف مدادها، وها قد ولج تفكيرك فيه، أعلم أنك وأنت تقرأ هذه السطور بدأت بالتفكير في الموت حرفياً، لا لشيء، فقط لأنك مدركٌ لحقيقة أنه كأس أنت شارب منه يوماً ما.
عندما أقوم بصنع صنعةٍ ما، أحاول أن اتقن صنعه، فاتقاني صلاحٌ لحياتي، فأحسن عمله واجعل فيه من كل شيء أكمله وأجمله وأفضله، لأقف في النهاية اتمجد بصناعتي وجهدي، ثم أجمع وألملم حكمتي، لأدرك أنه وفي نهاية المطاف ثمة عيبين، أما العيب الأول فإنه مهما أخذني السمر في النظر إليه فيه فأنني مغادره يوماً ما، وأما العيب الثاني فإنه مهما طال عليها الزمان فإن مصيرها الزوال، أقتبس من أقوال أبو العتاهية هذه الأبيات من ديوانه:
وكلّ الفكاهات مملولة وطول التعاشر فيه القلى
وكلّ طريف له لذة وكل تليد سريع البلى
ولا شيء إلا له آفة ولاشيء إلا له منتهى
أدرك حكماء العرب والمسلمين هذا الأمر جيداً، لذلك كانت نظرتهم عن السعادة هي النظرة الشاملة، فجعلوا السعادة قسمين، قسم يحقق فيه الحياة الطيبة في الدنيا وهو قسم لا محالة زائل، وقسم يحقق فيه السعادة في الآخرة وهو السعادة الأبدية؛ ومهما بلغت سعادة الدنيا مبلغها فإنها لا تساوي شيئاً بالنسبة لسعادة الآخرة، إذ مهما بلغت السعادة في الدنيا فإنّ فيها من الكدورة ما ينغصها، ومهما كان فيها من الشقاء فهي لا تساوي لحظة عذاب واحدة في الآخرة.
[1] م. عبد اللطيف البريجاوي، حقيقة السعادة، محاضرة ألقيت في صالة النور في الخيمة الرمضانية التي أقامتها جمعية البر والخدمات الاجتماعية بحمص خلال مهرجان حمص الثقافي وذلك يوم الاثنين الواقع في 15/9/1429هـ الموافق لـ15/9/ 2008م الساعة العاشرة مساءً .